قراءة لنص / تراتيلٌ من سِفْرِ التَّشَظِّي ... للشاعرة / إيمان السعيدي.. بقلم/ إبراهيم القيسي
الاربعاء 18 ابريل 2018 الساعة 14:05
الميناء نيوز- خاص
قراءة لنص / تراتيلٌ من سِفْرِ التَّشَظِّي ... للشاعرة / إيمان السعيدي .
تراتيلٌ من سِفْرِ التَّشَظِّي
***
في القلبِ أغنيةٌ يَغتالُها الوتَرُ
وللأماني دُروبٌ ملَّها السفَرُ
-
في القلبِ كَوْنٌ.. مجرَّاتٌ ، وأسئِلَةٌ
وفي الفضاءِ سرابٌ ظل يدَّخِرُ
-
وكلَّما جئتُ هذي الأرضَ ضاحكةً
رحى الظّنونِ تَقُدُّ النبضَ ، تعتصرُ
حتى إذا غازلتني غيمةٌ عَبَرَتْ
وبي مِن الظمأِ الأفراحُ تَنتَحِرُ
-
على شفاهي تراتيلٌ قرأتُ بها
سِفْرَ التَشَظّي وفي طَيّاتِهِ القَدَرُ
متى أراني ووجهُ الضَّوءِ منْكَسِرٌ
وفي دمي يَستَبِدُّ الليلُ والكَدَرُ ؟
-
متى أراني وسَوطُ الفَقْدِ يَجلدُني
وفي صقيعِ بلادي يَقدَحُ الشَرَرُ ؟
أفتِّشُ اليومَ في الأرجاءِ عن أَمَلٍ
وعن بلادٍ بها التأريخُ يفتَخِرُ !
-
هذي البلادُ أغاريدٌ معتَّقَةٌ
بها المدائنُ للأتراحِ تَعتَمِرُ
-
بها تمرُّ فصولٌ من تشابهها
كم أجدبتْ في ظِلالي زهرةٌ .. شَجَرُ
-
هذي البلادُ على أشلايَ هل فَطِنَتْ
بأنَّها تحتَ زَيفِ الحربِ تَستَتِرُ ؟
هذي البلادُ التي بالحبِّ أنزِفُها
تغتال حلمي ؛ فهل بالحبِّ ننكَسِرُ ؟
منها .. إليها ضياعٌ عاثَ في دمِنا
منذُ الطُّفولة تُرثي طفلَها الفِكَرُ
جوعٌ .. أنينٌ .. عراءٌ .. صرخةٌ .. زَمَنٌ
وفي العيونِ ضبابٌ .. شِقْوَةٌ .. سَقَرُ
وفي الأزِقَّةِ قد شَاخَتْ مآذنُها
وفي نَدَى شَفَتَيْها الماءُ يسْتَعِرُ
-
وحدي تقاسِمُني الأشباحُ حَسرَتَها
كم أنبَتتني بها الأسماءُ ، والصوَرُ
-
ولَستُ سِيزِيفَ حتى الأرض أحمِلُها
كلعنةٍ من تخومِ التِّيهِ تَنحَدِرُ
هُنا بهذي البلادِ الروحُ مُتعَبَةٌ
تبكي الجهاتُ ضياعي الآن ، والسَّفَرُ
إيمان السعيدي
19/يناير/2018م
______________________________
إطلالة
الشاعرة إيمان السعيدي من الشعراء الشباب الذين أتقنوا القصيدة نضوجا واكتمالا وهي من الشعراء المعاصرين للحدث تصلية واحترارا حيث تحسو كغيرها زعاف الأزمات والحروب كونها تقف في بؤرة الدوامة الطاغية تدور مع رحاها وتعتصر فوق ثفالها أشلاء من ركام الطحين .
فالشاعرة إيمان السعيدي تتميز تجربتها بالرصانة والنضج والجزالة والعمق تتسامى نحو الإبداع بعبقرية الخيال وجمال الصورة كونها تحلق في أفق النص بكفاءة منقطعة النظير تهرق تجربتها غيوما مسجمة تشن وابل الزلال بعذوبة الشهد وسلاسة الظلال .
فالشاعرة تسير نحو القصيدة بخطوات استثنائية تميزها عن تجارب الآخرين ببصمة متفردة تهل بأسلوب يستبطن الحمض النووي ليراعها الهاضب حيث تمتلك مقومات النسج والسبك في إطار الصناعة الشكلية والموضوعية تحترف الدقة في النظم والإيحاء في الدلالة والإيقاع في الوزن والجدة في الأسلوب والعبقرية في الصورة تمد وتجزر في بحر الشعر رائحة آيبة تصطاد اللؤلؤ والمرجان لتحلي به تجربتها في رهانات السبق المتجددة .
لقد أطلت الشاعرة علينا من ريع عال ترتل نصها شرارا من سفر التشظي تعبر عن كتاب الوطن المحروق تجسد ملحمته الروائية بتراجيدية محزنة تسبر من خلالها أبعاد الحدث بكارزمية الشاعر ورؤية الحكيم .
ما انفكت توقع الحدث من خلال إيقاعات البحر البسيط بتفعيلاته الهندسية تصميما واحترافا حيث تنصهر عواطفها موالا حزينا وأفكارها رؤى محترة في قوالب النص الحزين .
في القلبِ أغنيةٌ يَغتالُها الوتَرُ
وللأماني دُروبٌ ملَّها السفَرُ
-
في القلبِ كَوْنٌ.. مجرَّاتٌ ، وأسئِلَةٌ
وفي الفضاءِ سرابٌ ظل يدَّخِرُ
-
وكلَّما جئتُ هذي الأرضَ ضاحكةً
رحى الظّنونِ تَقُدُّ النبضَ ، تعتصرُ
تستهل الشاعرة النص باستراتيجية تقديم الخبر وجوبا كون الخبر شبه جملة والمبتدأ نكرة
في القلبِ أغنيةٌ .
وللأماني دُروب .
في القلبِ كَوْن .
وفي الفضاءِ سرابٌ .
حيث استخدمت الشاعرة الجملة الاسمية بمسوغات التموضع المتبادل بين ركني الجملة بناء على أصالة اللغة وتجديفا على قوارب الدلالة البلاغية في ثنائية المقصور والمقصور عليه حيث يستحق المتقدم الصدارة فقد قصرت الشاعرة الأغنية على القلب والأماني على الدروب والكون على القلب والسراب على الفضاء حيث تظهر تلك البنى في النص متآزرة مع أفكار وعواطف الشاعرة تعبر عن الحالة السيكلوجية بأبعادها الروحية المرتبطة بالأزمة الإنسانية المتفاقمة في رحاب الوطن .
قرنت الشاعرة المقصور عليه في الجمل الآنفة بحدث عدواني يبعثر المكنونات الوارفة في إطار الفوضى حيث يهدم مضمون الجمل بنقيض المقصور عليه بأسلوب يظهر التضاد بين العمران والهدم بأسباب تجسد انفراط المكونات بإرادة امتساخية من الذات إلى الذات .
فالأغنية / يَغتالُها الوتَر .
الدروب / ملَّها السفَر .
السراب / ظل يدَّخِر .
تلك الأحداث المتناقضة في النص ترسم لوحات بارعة من التصوير والخيال تقارب الحدث المعنوي في صورة الحسي تنم عن ذات الشاعرة وأزمتها في رهان الحدث حيث يبتسر القلق والإحباط أوتار التفاؤل والأمل بارتداد انفراطي يتسارع نحو الكارثة بمكونات امتساخية روجها عبث الدوائر الرابضة في خط المسار الساخن .
تنحو الشاعرة بتجليات فنية تجسد من خلالها صفقات سريالية تجمع بين الخيال والحقيقة والفن والمتعة والإيحاء والتكثيف والدهشة والمفارقة تسبح في لجج النص في مد وجزر تجدف قارب الصدق بإرهاصات دلالية تبزغ من محطات الإبداع ترحل من خلالها نحو المتلقي بهطول اليراع الغائم .
تدور الشاعرة الحدث من خلال دلالات أداة الشرط غير العاملة
" كلَّما " في إطار الظرفية الدالة على تكرار وقوع الجواب بتكرار وقوع الشرط حيث يكرر الحدث
" جئتُ " هيئة الحال " ضاحكةً " بحدث معكوس الجواب ناتج من قد الرحى للنبض حيث يتكرر حدثا المجيء والقد بتضاد يتمحور بين الضحك والبكاء والأمل واليأس حيث يشتق من حدثي الشرط والجواب حقلان يجسدان أعدادا غير منتهية من التقابل بين الخير والشر .
حتى إذا غازلتني غيمةٌ عَبَرَتْ
وبي مِن الظمأِ الأفراحُ تَنتَحِرُ
-
على شفاهي تراتيلٌ قرأتُ بها
سِفْرَ التَشَظّي وفي طَيّاتِهِ القَدَرُ
متى أراني ووجهُ الضَّوءِ منْكَسِر ٌ
وفي دمي يَستَبِدُّ الليلُ والكَدَرُ ؟
-
متى أراني وسَوطُ الفَقْدِ يَجلدُني
وفي صقيعِ بلادي يَقدَحُ الشَرَرُ ؟
تمزج الشاعرة بين الحدث والصورة في إطار الظرف " إذا " بدلالته المستقبلية حيث تشخص الغيمة بثنائية الإغراء والتهكم كون الشاعرة تقف في وضع مستبد يتلاعب بالمشاعر خسة واستهتارا يبعد عن القيم الفاضلة نتيجة التقرحات المشوهة في أفق البلد الساخن فحدثا الغزل والعبور يكثفان من الدلالة المزدوجة بتجسيد الوجود والعدم حيث تريد الشاعرة إيصال رسالة عن الوضع الراهن الواقف في جسر الامتناع والعبور .
حيث ترمز كلمة "الظمأِ " لحالة العطش الروحي "للحرية والحب" و" الأمن والسلام " بالنسبة لذات الشاعرة المعبر عن الضمير الجمعي للوطن حيث تأتي صورة الاستعارة المكنية :
" الأفراحُ تَنتَحِر " .
بدلالتها المأساوية تكثف من أبعاد الأزمة السيكلوجية للشاعرة في مساحة التطاحن الديماغوجي بإيقاع كرنفالي يتكئ على صرخات الحرب ورقصات الموت الراهنة .
"على شفاهي" .
شبه جملة استحقت التقديم وجوبا تستوعب قصر التراتيل في إطار حدث القراءة حيث يأتي "سِفْرَ التَشَظّي" رمزا لكتاب مفتوح يعبر عن الوطن المتشظي باشتعال حروفه بخورا بين يدي كهنة الحرب وسادني الفتن حيث تصل الشاعرة إلى بيت القصيد معبرة عن المعادل الموضوعي من خلال الرمزية المحملة بالدلالة غير المتناهية لاحتراق وتشظي الوطن .
تجمع الشاعرة بين السفر والتشظي بدلالة التفجير الذي يؤدي إلى الاحتراق بصورة تجمع بين الفظاعة والرعب والشاعرة بهذا التصوير تكثف من أبعاد المأساة ومضاعفاتها الكارثية نتيجة ارتهان الأنفس في وديان الأثرة والأنانية فأطبقت عليهم سماء القدر فساد ذات البين فجعلتهم شيعا وأحزابا يذيق بعضهم بأس بعض .
متى أراني
ووجهُ الضَّوءِ منْكَسِر ؟
الجملة الإنشائية بطورها الاستفهامي الباعث على الرفض والاستنكار ولعل الشاعرة أنزلت الأداة "متى" منزلة الأداة "كيف" فعبرت عن الحال بالزمن حيث تمزج الصورة "وجهُ الضَّوءِ منْكَسِر " في إطار الحدث المضاف إلى ذاتها "أراني" حيث يجمع الاستفهام ما بين حدث الرؤية وانكسار الضوء بعلاقات المشاهدة باطراد مكثف يتهاصر باكتمال الحدث مع عجز البيت الدال على تضخيم الاستبداد بثنائية الليل والكدر .
" وفي دمي
يَستَبِدُّ الليلُ والكَدَر " .
فالعلاقة بين حدث الرؤية وحدث الاستبداد اطرادية تبدأ بحدث انكسار الضوء الذي يعبر عن صورة الحدث المنبثق من اسم الفاعل الرباعي "منكسر" بإسقاطات رمزية تعبر عن اغتيال مناخ الحرية والديمقراطية التي خضعت للبسر والكسر عنوة من قوى الاستبداد المتجسدة في ثنائية الليل والكدر حيث عطفت الشاعرة الصفة على الموصوف بإنزال الصفة مقام الموصوف نتيجة التعاطف المشترك .
أما دلالة اسم الفاعل "منكسر" فهي تعبر عن الاعتداء الغاشم وتبييت النية المسبقة بالتحالف الظالم ضد الضوء وإزاحته كسرا وبسرا بأسلحة المكر والتآمر من أجل إحلال الليل المزاح من قبل الثورة الشبابية الشاملة .
متى أراني
وسَوطُ الفَقْدِ يَجلدُني ؟
الاستفهام الآنف يحمل نفس دلالة الاستفهام السابق يجدف على دلالة الرفض والاستنكار حيث أنزلت الشاعرة الأداة متى منزلة الأداة "كيف" فالشاعرة ترفض بشدة حدث الجلد حيث تضيف الفقد إلى السوط لتجسيد المعنوي في صورة الحسي في إطار حدث الجلد والشاعرة بهذه الصورة تعبر عن حالة الباطن وما يتعرض له من صعق بأسواط مؤلمة تنبثق من رهانات الواقع المتشظي الذي فقدت فيه الشاعرة كل المقومات الروحية والجسدية والإنسانية حيث خضعت لاجترار داخلي مكن أسواط الظلم من ضرب المشاعر بالقهر والبؤس والألم .
وفي صقيعِ
بلادي يَقدَحُ الشَرَرُ ؟
تقف الشاعرة هنا في بؤرة التناقض المنطقي لتجمع بين برودة الصقيع وشرر النار في مشهد سريالي تجدف من خلاله نحو الدهشة والمفارقة حيث تصل بين طرفي النقيضين بإسقاطات منطقية تعبر عن الغلو والتشدد وتجاوز حد الوسطية بين الحرارة والبرودة حيث يعبر الصقيع عن تجاوز حد البرودة المطلوب إلى الإهلاك مثلما تجاوز حد الحرارة المطلوب نحو الإحراق .
حيث تفلسف الشاعرة أسباب القتل بتجسيد ثنائية الصقيع والشرر بجامع الهلاك فالإهلاك هو نقطة الالتقاء بين الصقيع والشرر في حالة فقد هوية الاعتدال كمسميين طبيعيين للبرودة والحرارة .
أفتِّشُ اليومَ في الأرجاءِ عن أَمَلٍ
وعن بلادٍ بها التأريخُ يفتَخِرُ !
-
هذي البلادُ أغاريدٌ معتَّقَةٌ
بها المدائنُ للأتراحِ تَعتَمِرُ
-
بها تمرُّ فصولٌ من تشابهها
كم أجدبتْ في ظِلالي زهرةٌ .. شَجَرُ
-
هذي البلادُ
على أشلايَ هل فَطِنَت؟ْ
بأنَّها تحتَ زَيفِ الحربِ تَستَتِرُ
جاء الحدث " أفتِّشُ " يضخم هول الضياع ومحنة اختفاء الوطن من خارطة الوجود ما انفكت الشاعرة تبحث عنه في ثكنات المافيا تصر على البحث في الرحاب لعلها تصل إلى بعض خيوط الأمل لتبذل وسع جهدها لإنقاذه لأنه وطن ثمين بتاريخه وشجاعته ومواقفه وبرصيده الأخلاقي المبدئي .
هذي البلادُ
أغاريدٌ معتَّقَة
تأتي الجملة الاسمية الآنفة تكشف عن المقة المتأصلة للوطن في قلب الشاعرة حيث تصف البلاد بأغرودة يعزفها قلبها المحب فثنائية الوطن والذات تختمران بتكامل في إطار المآزرة حيث تأتي لفظة " المدائنُ " تعبر عن مآتم بكائية تبكي فقد مقومات الحياة من العدل والأمن والاستقرار حيث يأتي الحدث
" تَعتَمِرُ " يجعل من المدائن مقرات مقدسة تحج نحوها المآسي تشبيها لها بالعتبات البكائية نتيجة التضخم الكارثي للمأساة .
" بها " تقديم الجارور والمجرور يفيد الاهتمام بالمتقدم بقصر حدث الجملة الفعلية " تمرُّ فصول " عليها لتجسيد البيئة الساخنة عبر السنين نتيجة تكرار الأحداث المأساوية بتدوير آلي طالما أجدب الحياة في إطار الظلال المحترة التي أحرقت الشجر وأذوت الزهور .
" هذي البلادُ على أشلايَ " .
جملة اسمية مكررة تفيد تأكيد ما قبلها حيث تختلط أشلاء الشاعرة بثرى تراب الوطن معبرة بالذات المفردة عن ضمير الوطن الجمعي بامتزاج روحي ينتج عن علاقة الجزء بالكل حيث يأتي الاستفهام الإنشائي " هل فَطِنَت ؟ " يضخم الألم والحسرة والاستنكار والرفض نتيجة تجاهل الحدث العاني والمصير المجهول .
بأنَّها تحتَ
زَيفِ الحربِ تَستَتِرُ
تتآزر " أنَّ " الناسخة بدلالتها التوكيدية مع ظرف المكان
" تحتَ " لتجسيد الصورة المأساوية بكيفيتها الأسطورية حيث تبدو الصورة مقززة تنتج من لباس الزيف المنسوج من سراب الحرب .
هذي البلادُ التي بالحبِّ أنزِفُها
تغتال حلمي ؛ فهل بالحبِّ ننكَسِرُ ؟
منها .. إليها ضياعٌ عاثَ في دمِنا
منذُ الطُّفولة تُرثي طفلَها الفِكَرُ
جوعٌ .. أنينٌ .. عراءٌ .. صرخةٌ .. زَمَنٌ
وفي العيونِ ضبابٌ .. شِقْوَةٌ .. سَقَرُ
وفي الأزِقَّةِ قد شَاخَتْ مآذنُها
وفي نَدَى شَفَتَيْها الماءُ يسْتَعِرُ
-
"هذي البلاد"
جملة اسمية مؤكدة تتآزر مع اسم الموصول "التي" وشبه الجملة "بالحب" المتعلقان مع الحدث "أنزِفُها" حيث يشير اسم الإشارة "هذي" إلى البلاد في إطار حدث النزف حيث تضخم الشاعرة بكائية الحب من خلال النزيف الروحي المعبر عن الحسرة والألم لما آل إليه حال الوطن من سقوط متعمد نحو الكارثة .
فالشاعرة تنتقل من الحدث العام المرتبط بالوطن إلى الحدث الخاص المرتبط بالذات من خلال الجملة الفعلية " تغتال حلمي " بإسناد الاغتيال إلى البلاد بعودة الضمير للغائب وهنا تقف الشاعرة في بؤرة المفارقة بإسقاطات الدهشة الواقعة بين نزيف الحب واغتيال الحلم لتجسد مدى الألم المستبطن للذات من ثنائية حب الشاعرة وإساءة الوطن .
"منها .. إليها ضياع"
منها إليها ابتداء غاية وانتهاؤها تدور حول حدث الضياع مكونة دائرة مفرغة تدور من الوطن وإلى الوطن ترتبط بحدث الجملة الفعلية " عاثَ في دمِنا " بدلالتها الماضية المبتدئة "منذ الطفولة" باستمرار التجدد الهاضب من حدث الرثاء :
" تُرثي طفلَها الفِكَر " .
حيث تربط الشاعرة بين الحدث والمصير بخارطة ديمغرافية تحدد مسافة البؤر بدايةً ونهايةً في مسار الحدث المتأزم الذي رافق الشاعرة منذ الطفولة إلى زمن صياغة النص حيث ترثي مصيرها في عمر عان يتمدد على أبعاد زمكانية تتضاعف بأحداث الضياع والرثاء .
جوعٌ .. أنينٌ ..
عراءٌ .. صرخةٌ .. زَمَنٌ
وفي العيونِ ضبابٌ .. شِقْوَةٌ .. سَقَرُ
تأتي استراتيجية التقسيم متكئة على استراتيجية الحذف حيث جاءت بالمبتدأ النكرة مجردا من خبره المقدم شبه الجملة لتعمم الدلالة بعيدا عن ذكر الخبر لفائدة لغوية ونفسية تتعلق بإرادة الشاعرة وأبعاد أزمتها الروحية في إطار الأحداث الدائرة .
نلحظ تضخيم الشاعرة للحدث من خلال دلالة التنكير والحذف لطرفي الجملة الاسمية ما بين صدر البيت وبعض عجزه حيث جاء العجز دالا على الصدر بذكر نموذج محذوف الخبر شبه الجملة
" في العيونِ ضباب" .
فالشاعرة توجز المضمون من خلال تكثيف الدلالة بإشارات وامضة تنطلق من تعدد الأحداث في سياق النص .
وفي الأزِقَّةِ
قد شَاخَتْ مآذنُها .
تأتي الصورة الآنفة تجسد حدث الشيخوخة للمآذن وهي صورة تجسد حالة الوطن في مرحلة متأخرة من البؤس كون الشاعرة تقمص المآذن حالة الشيخوخة لتضخم الهيئة البائسة بإسقاطات دلالية تعبر عن حالة الهرم والضعف لوطن يشيخ في مقتبل العمر نتيجة الأحداث والكوارث المحيطة به حصارا وتقتيلا .
[وفي نَدَى
شَفَتَيْها الماءُ يسْتَعِر] .
تجسد الشاعرة البلاد في صورة " استعارة مكنية "حيث شبهتها بفتاة فحذفت المشبه به وأبقت شيئا من لوازمه وهو "ندى شفتيها" حيث تعبر الصورة عن حالة الاحترار والقهر الذي تعيشه البلاد من جراء العواصف والنكبات حيث تكشف الشاعرة عن ثنائية الباطن والظاهر في ملتقى الحدث ما انفكت حرارة الباطن تظهر بمظهر خارجي عبرت عنه الصورة من خلال استعار الماء في ندى الشفتين وهي بهذه الصورة جسدت حالة البؤس بأقسى صوره ناتجة عن الحدث المتوازي مع رهان الحرب .
وحدي تقاسِمُني الأشباحُ حَسرَتَها
كم أنبَتتني بها الأسماءُ ، والصوَرُ
-
ولَستُ سِيزِيفَ حتى الأرض أحمِلُها
كلعنةٍ من تخومِ التِّيهِ تَنحَدِرُ
هُنا بهذي البلادِ الروحُ مُتعَبَةٌ
تبكي الجهاتُ ضياعي الآن ، والسَّفَر
تختم الشاعرة النص بتراجيدية محزنة تضخم فيها الألم في إطار الوحدة تخطو بين ثنائية الأشباح والصور في درب مخيف حيث ترسم خارطة الخوف في مسار موحش يتناءى عن الأنيس والساكن إلا من أحداث التغول التي تقاسمها الحسرة والألم حيث تأتي "كم" الخبرية تضخم من التعدد الموحش للأسماء والصور في دائرة المكروه .
ثم تأتي بالرمز الأسطوري "سيزيف" لتضخم الكارثة التي تحدق بها نتيجة حمل الأثقال ابتداء بالصخور وانتهاء بالأرض حيث يجسد الرمز البعد النفسي المتأزم لدى الشاعره بمجراه الانفرادي في مساحة الاحترار حيث تتفاقم الهموم والأحزان في محيط الشاعرة .
حيث يأتي التشبيه " كلعنةٍ " يضخم من تخوم الكارثة المنحدر بتيه متغول في بحر لا ساحل له .
معتضدا مع اسم الإشارة "هُنا" بدلالته الظرفية يحدد مكان الكارثة بالإشارة إلى " هذي البلاد" حيث تقرن الشاعرة مأساتها الروحية بالمكان المشتعل حربا وقتلا المكان المحترق بشظايا الغدر والهمجية المكان الذي تتناثر عليه الأشلاء ويستذئب فيه البغي ويتغول الحقد ويستشري الفساد ويسكن الجوع والخوف والمرض .
حيث تصل الشاعر إلى قمة الحزن من خلال تصورها الأخير عن الكارثة وأبعادها المأساوية وارتباطها بالحدث زمانا ومكانا .
"تبكي الجهاتُ
ضياعي الآن ، والسَّفَر"
حيث تقرن مأساتها بالمتجه والمسافة بالزمان والمكان حيث تعمم البكائية المطلقة من خلال أبعاد المتجه شرقا وغربا شمالا وجنوبا فالكارثة استحلت كل الجهات وكستها غلالة الحزن والألم حيث تتعامد مع الزمن والمسافة سفرا وإقامة لم يخل درب ولا زاوية من ارتطام المد والجزر لموج الكارثة .
18/4/2018م
إبراهيم القيسي
متعلقات