الأنا والآخر في «محطات من السيرة الذاتية» للسوداني طارق الطيب
الاثنين 28 اكتوبر 2019 الساعة 19:43
الميناء نيوز- متابعات

عندما لا يكون المؤلف قد طعن في السن، وبلغ من العمر عتيا، فإنه لا يستحسن، ولا يستجاد منه أن يكتب سيرته الذاتية، وأن يدون بقلمه قصة حياته من الألف إلى الياء. وهذه الفكرة تكاد جمهرة من الباحثين والدارسين لكتب السيرة يسلمون بصحتها تسليما، إلا أن طارق الطيب مؤلف «محطات من السيرة الذاتية» (دار العين للنشر ـ القاهرة 2012) لا يطمئن لهذه الفكرة، ولا يرى فيها صحةً على الإطلاق. فلا مانع لديه من أن يحاول الكاتب وهو في ميعة الصبا، وريعان الشباب، أو وهو في الأربعين أو الخمسين، أن يكتب سيرته الذاتية كتابة فريدة تنماز على غيرها من السِيَر، بالحديث عن طفولته وتجربته في الحياة، بل يرى في هذه الكتابة كتابة تفضل الأخرى، المكتهلة، بحكم القرب الزمني من التجارب، وعدم نسيان الكثير الجم من التفاصيل المهمة التي تضفي على السيرة ما تحتاج إليه من سلاسة البوح، ومصداقية الاعتراف.
وهو إلى ذلك يعد نفسه من ذلك النفر الذي يؤمن بأن في الطفولة البوصلة التي تتحكم أو ينبغي لها أن تتحكم بكاتب السيرة، فلا يستطيع الكاتب السبعيني أو الثمانيني أن يسترجع ما مضى، بالعفوية والحميمية والحرارة نفسها التي تملأ حياة المؤلف، إذا كان في شبابه أو في صباه.
ولهذا وجدنا بعضهم قد كتب «صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس 1916، وآخر، مارسيل بروست يكتب «البحث عن الزمن الضائع» وهكذا..
ومحطات الطيّب – ها هنا- لا تتمخض عن سيرة متكاملة، أو مترابطة متماسكة في تسلسل زمني على النحو الذي نجده في كتاب «الأيام» لطه حسين (1889- 1973) ولا كتلك السيرة المترابطة التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا (1920- 1994) بعنوان «البئر الأولى» ولهذا يغيب عن هذه السيرة ذلك التسلسل الإكرونولوجي، أي الميقاتي، الذي نجده في النماذج المذكورة. ولا حتى ذلك النموذج شبه الروائي الذي نجده في «دروب المنفى» لفيصل حوراني، أو «وداعا يا زكرين» لرشاد أبو شاور، أو «بقايا صور» لحنة مينه (1939- 2018).
ففي واحدة من المحطات، وهي الأولى يحدثنا طارق الطيب عن ميلاده في حي عين شمس شمالي شرقي القاهرة. وعن تلك المدرسة الابتدائية التي رأى فيها وأبصر، وكتب حروف الهجاء العربية وعرف حروفا أخرى تختلف عنها في النوتة التي تدرسها (أبله) في حصة الموسيقى. وفي المحطة الثانية التي يسميها محطة الأب يعود بنا القهقرى، فيروي حكاية أبيه ولقاءه الأول بتلك الفتاة المصرية التي تنافس على التقدم لها عدد من الشبان، ففاز عليهم جميعا، واتخذها زوجة مازجا في عروق أولاده بين الدم المصري والسوداني، مؤكدا وحدة الصف العربي. وفي هذه المحطة أيضا نجد أخرى هي محطة الابن، وفيها سرعان ما يكسر رتابة السرد الزمني، فإذا به يروي في قفزة زمنية كبرى شيئا عن زيارته المبكرة لفيينا، واستذكاره أغاني المطربة الراحلة أسمهان (1912- 1944) وهي تردد بصوتها الشجي الرائع «ليالي الأنس في فيينا».

يحدثنا طارق الطيب عن ميلاده في حي عين شمس شمالي شرقي القاهرة. وعن تلك المدرسة الابتدائية التي رأى فيها وأبصر، وكتب حروف الهجاء العربية وعرف حروفا أخرى تختلف عنها في النوتة التي تدرسها (أبله) في حصة الموسيقى.

ثم يعود مرة أخرى بالقارئ إلى باب الشعرية في القاهرة، وكوبري القبة، والقصرالملكي الذي أصبح في عام 1953 قصرًا جمهوريا بعيد الثورة. ولا يفوته الحديث عن زيارة أخرى للعريش على كثب من غزة في فلسطين، حيث أبوه الجندي في الجيش المصري، وفي هذه الأثناء يغوص في أجواء الزار، والدراويش، وبائعي العرقسوس، والترمس، وحب العزيز، والحيلاتي، واللب، والفول السوداني.. وغير ذلك مما يضع القارئ في أتون الذاكرة الشعبية.
ويطَّرد السرد بهذا الأسلوب المتقطع اطرادًا لا يتبع فيه ولا يلتزم خط سير متنام، مثلما هي الحال في كثير من السير، بل يتخطى ذلك إلى الوقوف عند أفكار تبدو لنا مجتزأة، ومنتزعة من السياق. بيد أنه يعرض لها في نسق يجعل منها وصلة لا غنى عنها، في سياق يفترض أنه متساوق. فعلى سبيل المثال فكرة الحدود، وتعامله الفني مع هذا المصطلح، الذي سمعه لأول مرة ـ في ما يزعم- وهو في الرابعة من عمره، فكرة تعود بنا إلى طبيعة المصطلح وتقلباته. فهذا المصطلح يغدو مع الزمن، وتقدم العمــر، مصطلحاتٍ عدة لا مصطلحا واحدًا، وذا دلالات عدة لا دلالة واحدة. فثمة حدود للمكان، وحدود للزمان، وحدود للماء، وأخرى للفضاء، وحدود للغة، وأخرى للثقافة، والهوية، وحدود للمناخ، وحدود أخرى وهمية.
أما المنفى الاختياري ـ فيينا- التي يقيم فيها الكاتب منذ أزيد من ربع قرن، فقد اختار للحديث عنها تعبيرُا آخر هو المنأى، للدلالة لا على الاغتراب وحسب، ولكن أيضا على البعد، ويذكر لنا أنه واجه في هذا البلد البعيد إشكالية اللغة، وتغلب على الألمانية ليعود بنا كرة أخرى للحديث في محطة الصور عن طفولته المبكرة. ويروي لنا لقطاتٍ عما هو أوغل في الماضي من الطفولة، أي عن الولادة. وما عرفه من سعي متكرر بين صفا القاهرة، ومروة شمال سيناء، والعريش وغزة. وتقول له «العصفورة» إذا ساغ التعبير- أن يروي مشاهد متأخرة من حياة متقدمة غابرة. الأم، والأخت، والأب، والسائح الأجنبي والأنا الذي هو الآخر أيضًا. الآخر الذي يعاني متاعب الحياة في عالمين، عالم شرقي افريقي، وآخر غربي أوروبي، فالميلاد في القاهرة، والنشأة والتعليم والتربية في مصر، والأطوار؛ طفلا، فمراهقا، فشابا، في أمكنة متعددة، ثم المغادرة إلى العراق مرة، وإلى فيينا أخيرًا، ليعيش فيها حياة جديدة، فيسمع لغة أخرى بعينيه لا بأذنيه، محطات متتابعة في حياة يغلب عليها الاضطرابُ، والجمع بين لا.. ونعم، الحياة في عالمين قد يبدوان متفاهمين، ولكنهما في الأكثر – وعلى الأرجح – متناقضان. فالغرب الأوروبي أصبح مكونا من مكونات شخصيته الأساسية، لذا يصدق عليه هذا الوصف المتناقض المتضارب «أنا هو الآخر».
يُذكر أن لطارق الطيب عدَدًا من المؤلفات الموضوعة، والمترجمة، نذكر منها: «بعنا الأرض وفرحنا بالغبار» ورواية «ليس إثما» ورواية «أطوف عاريًا» و«بيت النخيل» رواية، والجمل لا يقف خلف الإشارة الحمراء، و«مدن بلا نخيل» (رواية) وله مجموعتان قصصيتان، إحداهما بتقديم الطيب صالح، وخمس مجموعات شعرية، ومسرحية واحدة بعنوان «الأسانسير» القاهرة 1992.

متعلقات