المتابع للأحداث منذ تمرد مليشيا المجلس الانتقالي على الدولة وسيطرتها على العاصمة المؤقتة عدن في بداية شهر أغسطس الماضي وما تلا ذلك من أحداث يدرك أننا نعيش وضعا سياسيا غوغائيا، يعمد فيه البعض بناء بطولات وهمية باستثمار الغضب والسخط الشعبي، وكيل الاتهامات للطرف هذا أو ذاك والتعريض بخيانة القضية الوطنية.
ومنذ البداية كان واضحا بأن هناك استهدافاً مباشراً لشخص رئيس الوزراء معين عبد الملك دون هوادة، واتهامه بالتماهي مع تمزيق اليمن وتفتيته، لكن المتابع الحصيف يدرك أن خطاب الدولة يختلف تماما عن بطولات وسائل التواصل الاجتماعي، بينما المهمة الوطنية الأولى للحكومة هي الحفاظ على تماسك النظام السياسي والعمل عبر العقل الجمعي لمؤسسات الدولة للتصدي لأي مشاريع تستهدف الوطن، وهي الاستراتيجية التي انطلق منها رئيس الوزراء الشاب معين عبدالملك وحكومته في تعامله مع الأزمة، ودعوني يا سادة أعيد للأذهان الأداء الحصيف الذي قام به هذا الشاب، فقد غابت الحقائق في ظل تسارع الأحداث وسيل الاتهامات والافتراءات، وسيفهم القارئ بأنني منحاز لأداء رئيس الوزراء معين عبد الملك، وهو أمر لا أنكره، لكني في هذا المقال أناقش بالحقائق وأترك الحكم للقارئ.
منذ اللحظة الأولى للأحداث التي شهدتها مدينة عدن كان موقف رئيس الوزراء واضحا وصريحا بأن ما حصل هو تمرد مدعوم من دولة الإمارات، وأنه أمر يستهدف الثوابت الوطنية، ودعا لاجتماع استثنائي لمجلس الوزراء والذي أصدر بياناً صريحاً وواضحاً يمثل الموقف الشخصي لرئيس الوزراء وموقف الحكومة ككل، وكان البيان لا يقبل التأويل ونقل الإجماع الوطني على الثوابت الوطنية، الواضح أن رئيس الوزراء التزم بمسؤوليته في الحفاظ على تماسك النظام السياسي والحكومة واصطفافها خلف الموقف الوطني، ولذا لم يصدر بيانا شكليا باسم الحكومة بعيدا عن مؤسسة مجلس الوزراء، وحينها كما يدرك المطلعون طالب الوزراء رفع عدد من القضايا إلى الرئيس لاتخاذ القرار بشأنها، وهو ما تم، وعلى الرغم من أن الظهور بصورة البطل الوطني كان أمرا يسيرا، إلا أن رئيس الوزراء رفض أن تخرج هذه المطالب إلى الإعلام حتى لا تكون هناك مزايدة على فخامة الرئيس في هذه المطالب، فالمسؤولية جماعية والهم الوطني أكبر من اللغط في وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الإعلام.
وحينما اتجهت مليشيات المجلس الانتقالي نحو محافظة شبوة وبقية المحافظات الجنوبية بحجج واهية انطلاقا من خطة أعدت بليل، كان العمل في الميدان هو الأساس لحماية الدولة من الانزلاق نحو الفوضى والفرز اللاوطني، وكان رئيس الوزراء الشاب حاضرا بقوة وعلى تواصل مع الرجال في الميدان، وفي الوقت التي كانت المعارك على أشدها على أبواب محافظة شبوة وجدناه يتحرك بشجاعة مع عدد من أعضاء حكومته إلى عتق ليشد أزر الابطال في الجيش الوطني ويؤكد حضور الحكومة إلى جانب السلطة المحلية، ولم تكن زيارة خاطفة وإنما أقام في المدينة يوما كاملا على الرغم من المحاذير الأمنية المحيطة، ووضعت حكومته الموارد المالية اللازمة في يد السلطة المحلية للقيام بمسؤولياتها وتغطية الفراغ الأمني.
الشواهد كثيرة على الأداء الحصيف والمتزن لرئيس الوزراء، منها ما شهدته مدينة حضرموت مؤخرا من تظاهرات وتجمعات ومطالبات، خرجت حكومة معين وعبر وزارة المالية ببيان منصف للمحافظة ووضحت الحقائق والتزمت بمسؤوليتها القانونية والإدارية والدستورية أمام المجتمع، ولم يعمد هذا الشاب إلى حملات التشويه والتخوين في حق المسؤولين الحاليين أو المقالين، وعف عن الجدليات التي تؤجج المجتمع وتعقد الحلول.
كثيرون أخذوا على الدكتور معين الابتعاد عن التصعيد والتصريحات الإعلامية في ظل الأزمة الحالية، لكن يا سادة نحن أمام مفترق طرق وبين خيارين إما أن ينجح الحوار القائم في جدة وأن يتم توفير كافة الظروف الملائمة للتهدئة ولإنجاح جهود الأشقاء في المملكة، أو أن تأخذ الأمور الميدانية منحى تصعيدياً وندخل في مغامرة مكلفة على الجميع، وعلى الرغم من أنه لا توجد ضمانات أن يخرج حوار جدة بحلول جذرية تمنع أي مواجهات لاحقة، لكن الاستثمار في الحل أفضل من الاستثمار في الصراع، وفي النهاية إذا انعدمت الخيارات وأصبحت المواجهة هي السبيل لحماية اليمن من التمزق والانجرار للفوضى فبالتأكيد سيكون الموقف مختلفاً.
الدكتور معين لا ينتمي لأي تيار سياسي ولا قبيلة أو منطقة تسنده في التعقيدات المركبة داخل اليمن، وهذه هي نقطة قوته لا ضعفه، فمنذ اليوم الأول لتعيينه عمل من داخل العاصمة المؤقتة عدن، وأعاد لمؤسسات الدولة ألقها واعتمد ميزانياتها، ووسع قاعدة دفع رواتب موظفي الدولة، ولم يكن يوما جزءاً من الاستقطابات الحادة بل رفع الدولة فوق كل هذه الاستقطابات، ولذا نال احترام الشركاء الإقليميين والدوليين، لأنه تحدث بلغة الدولة المسؤولة عن الحالة الإنسانية والوضع الاقتصادي والسياسة الداخلية والعلاقات الخارجية.
نحن على أعتاب اتفاق سياسي بالتأكيد قد يكون أحد بنوده تغيير في تشكيل الحكومة، والمسؤول الحكومي في نهاية المطاف هو موظف دولة وهي وظيفة عامة الأهم المؤسسة لا الأشخاص ومن يتعاقبون عليها، ولكن الآلية التي انتهجها الدكتور معين ينبغي أن تكون دليلا له نفسه أو لمن يليه في المنصب، أن يكون المرء رجل دولة وأن يجعل الأفعال تتحدث عن نفسها، فالبطولة في هذه الأيام سهلة ويسيرة، والعمل والإنجاز في ظل الوضع المعقد التي تشهده اليمن هو التحدي الأكبر.