يغادرنا القادة الواحد تلو الآخر، بعضهم أنهكته مراحل الثورة والاستقلال والتغيير والوحدة، فكلها مراحل نضال لا تخلوا من التضحيات والعطاء في أعلى درجاته. محمد سالم عكوش نموذج لهذا النوع من المناضلين الأشداء، النبلاء في تفكيرهم والوطنيين في مواقفهم، حلموا بالحرية، وناضلوا من أجلها آمنوا بالاستقلال وصنعوه، وشقوا طريقاً لنا نحو وطن حر ومتحرر وشامخ، وبعضهم الآخر تصرعه الأقدار في ميادين الشرف وحيث الشهادة في أسمى معانيها، كما غادرنا قبل أيام الشهيد طماح عندما تمكن المجرمون الحوثيون في صنعاء من حفل العند.
عكوش القادم من شرق اليمن من المهرة، كان واحداً من خلايا حركة القوميين العرب، الجبهة القومية فيما بعد، زامل زعماء وقادة الثورة والتحرير، وشاركهم مرحلة النضال الوطني حتى نيل الاستقلال، مكانته بين المناضلين الكبار تظهر جلية في تولية منصب محافظ محافظة المهرة بعد الاستقلال مباشرة، ثم محافظاً لحضرموت وبعدها وزيراً وزارة الثروة السمكية. وعضواً بارزاً في مجلش الشورى، وفي مناصبه رفيعة المستوى هذه كان نموذجاً للمناضل الثوري والقائد الذي حافظ على مواقفه الوطنية، في الحزب الاشتراكي، وبعد ذلك في المؤتمر الشعبي العام. عصامياً ونزيهاً ونموذجاً لرجل الدولة.
كانت آخر صولاته وجولاته السياسية قد خاضها في مؤتمر الحوار الوطني، صعد أكثر من مرة لمنصة الخطابة رافضاً استمرار الظلم والاقصاء والفوضى في المحافظات الجنوبية، ولكنه في ذات الوقت التزم خط الوحدة، وبعد أشهر من مناقشة عميقة لأسباب وجذور الأزمة في اليمن وحلولها، أيَّد صيغة الدولة الاتحادية، موقناً بأنها الجمهورية في مرحلتها الأكثر نضجاً ونفعاً وعدلاً، ضل إيمانه بالجمهورية والهوية اليمنية الواحدة ثابتاً راسخاً كإيمانه في شبابه بالحرية والاستقلال والوحدة.
ومن داخل قاعة مؤتمر الحوار الوطني قادنا من المنصة في الإعلان عن أول إقليم اتحادي يجمع شبوة وحضرموت والمهرة وسقطرى، سمي في ذلك الحين بالإقليم الشرقي ثم إقليم حضرموت، وبسبب التسمية خاض سكان الإقليم في نقاش طويل لم ينته بعد، كان حينها لازال يقف بوضوح إلى جانب اليمن الموحد الاتحادي، ولكنه كان يفضل البحث في تسمية جديدة للإقليم تجمع ولا تفرق، فقد كان يدرك معنى الوحدة في مستوياتها الدنيا، وفي مستواها الأعلى الذي يعانق الهوية اليمنية الواحدة كنت أقول له، حتماً شيخنا المناضل سنجد حلاً لهذا الإشكالية حلاً يكون محلاً للرضى من الجميع، يجب ألا تكون التسمية عامل فرقة.
غادرنا فقيدنا الكبير وشيخنا الجليل السياسي والمناضل الجسور والشاعر والشخصية الاجتماعية المرموقة ، محمد سالم بن عكوش، في وقت ما أحوجنا إليه، زرته في بيته هناك على ساحل البحر العربي، وفي مسكنه هدا تخيلته فارس يرقب ثغور اليمن، ويحرسها. كان حاضر الذهن متقد الذاكرة، فاستقبلنا واقفاً، هاشاً باشاً مرحبا بنا، كعادة أهل المهرة الكرام في استقبال ضيوفهم، تحدثنا كثيراً في العام والخاص، وودعنا بذات الحفاوة التي استقبلنا بها، كنا برفقة المناضل محافظ المجافظة حينها محمد عبدالله كدة، ويصبحنا عدد من الوزراء والقادة الذين أصروا على زيارة ذلك الهرم الوطني الكبير.
فلنترحم عليه، نطلب له الغفران، وندعو له بجنة فسيحة عرضها كعرض السماوات والأرض، أعدت للمتقين، نسأل الله أن يكون منهم، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وقد أحسن عكوش في ايمانه، وفي معتقده السياسي، وفي أعماله. يطالبنا هو ورفاقة وإخوته في النضال الوفاء لتضحياتهم، وتضحيات من سبقوه من قادة الثورة، وصناع الاستقلال، ورموز الوحدة، وعندما تمكن الحوثيون من عاصمة الوحد، وانقضوا على الجمهورية والوحدة، أبى عكوش إلا أن يكون ثورياً وجمهورياً ووحدوياً، يدعم الشرعية والتحالف العربي، ويرفض الهيمنة والغطرسة الفارسية.
مات عكوش الذي ملاء اليمن حضوراً، وجدلاً فاختلف فيه البعض وسانده البعض وأظنهنم الأكثرية، عاش شامخاً ومات قيلاً مهرياً يمنياً لم يغير ولم يبدل، آمن بالحرية وقاتل من أجلها، وناضل من أجل حياة حرة كريمة، وكان له قصب السبق مع رفاقه في سعيه لها، تقدمياً في شبابه، ثائراً وقائداً ومصلحاً وداعياً للخير في ما مضى من أيامه ودَّعنا طوداً شامخاً، ونودعه معلماً وملهماً وتاريخاً يختزل حياتنا وسعينا لحياة أفضل. سننتصر لقيم آمنت بها وناضلت من أجلها آبا سالم، وسننتصر لهويتنا اليمنية، لنظام وطني كنت من صناعة، وسندافع عن وحدة أفنيت عمرك مع رفاقك لتحقيقها والدفاع عنها، سنمضي فقيدنا الكبير على خطاك. الملايين من اليمنيين تودعك، والملايين تحزن لفراقك.
لن تذهب تضحياتكم أبا سالم ورفاقك ممن صنعوا مجد أكتوبر ونوفمبر ومايو العظيم هدراً رغم تعقيدات المرحلة وهذه المحنة الأليمة. هذه الحياة التي نعيشها والمعركة التي نخوضها ضد جحافل الإمامة في عهدها الجديد المدعومة بتطلعات العهد الفارسي القديم الجديد تختبر صلابة هذا الجيل من بعدكم، تختبر معتقده ووعيه وثقافته ونزوعه الحقيقي للحرية، تختبر رفضه للعبودية في أي صورة تشكلت، وتختبر وطنيتة وعمق ايمانه بهويته اليمنية، نم قرير العين فقيدنا الكبير، فالجمهورية باقية فقد رُويت بدماء زكية، والوحدة ستبقى لأنك وضعت وصحبك أساساً جديداً متيناً لها هو آخر ما أبدعه العقل السياسي اليمني في بناء الدولة، وأفضل ما أنتجته نظريات الفلسفة في الحكم.